مجزوءة الوضع
البشري
تقديم عام :
يشير الوضع البشري إلى مجموع المحددات
والأبعاد التي تحد الذات الإنسانية في مختلف مستويات وجودها ،فالوضع البشري يتعلق بالذات
الإنسانية وبمختلف الشروط والمحددات التي
تطبع وجود الكائن البشري داخل هذا الوجود ،وبما أن الوضع البشري بتشابك أبعاده
وتداخلها يتعلق بالإنسان فإن ذلك ما جعله
يشكل موضوعا محوريا داخل التفكير الفلسفي ،وذلك منذ اللحظة اليونانية ،وقولة سقراط
الشهيرة "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك " ،بحيث اهتم الفلاسفة والمفكرون
بمختلف الأبعاد التي تسم الوجود الإنساني –الوضع البشري- أو بعبارة أخرى وضع الإنسان
في الوجود ،هذا الوضع الذي يتميز بطابعه المركب والمعقد فهو يشير إلى تقاطع العديد من الأبعاد والمحددات
لعل أبرزها البعد الفردي والعلائقي والتاريخي هذه الأبعاد الثلاثة التي تتمحور
حولها مجزوءة الوضع البشري ،والتي سنقاربها
من خلال القضايا والإشكالات التالية :
ü البعد الفردي الذي
سنقاربه من خلال مفهوم الشخص ككيان بشري وذات
لها هوية وتتمتع بقيمة وتعيش وفق وضع مشروط بالحرية والضرورة
ü البعد العلائقي
والذي سنعالجه من خلال مفهوم الغير وما يطرحه هذا الغير من إشكالات في بعده الوجودي والمعرفي والعلائقي
ü البعد التاريخي-الزمني-
والذي سنقاربه من زاويتين ،الزاوية الإبيستمولوجية –التاريخ باعتباره موضوعا للمعرفة –ومن زاوية فلسفية –
من خلال ما يطرحه من إشكالات فلسفية–فكرة التقدم ودور الإنسان في التاريخ -
تقديم إشكالي:
يشير
مفهوم الشخص في اللغة العربية إلى معاني البروز والظهور والعظمة ...،فقد جاء في لسان
العرب "الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد .والشخص كل جسم له ارتفاع وظهور
" والملاحظ أن هذه التحديدات تركز على معاني البروز والظهور ...،وكل ما يقوم كمظهر
خارجي .
أما في اللغة الفرنسية فإن كلمة personne فإنها مشتقة من الكلمة اللاتينية persona
والتي تعني القناع،
أي القناع الذي يلبسه الممثل لأداء الدور المنوط به داخل المسرحية ،الشيء
الذي يحيلنا على التخفي والتواري وعدم الظهور...
بينما فلسفيا فمفهوم الشخص يشير إلى
كيان بشري يتميز عن مختلف الكائنات الحية الأخرى ،ولعل ما يميزه هو امتلاكه لهوية تميزه
ليس عن الموضوعات والأشياء فحسب وإنما عن الذوات الأخرى أيضا .هذه الهوية التي تجعله
مطابقا لذاته وتمنحه الإحساس بأنه "هو هو " رغم التغيرات التي تطرأ عليه
،لكن إذا كان ما يميز الشخص هو هويته ،فما أساس هذه الهوية ؟وإذا كان الشخص يتميز عن باقي الكائنات ويسمو فوقها نظرا
لتميزه بمجموعة من المقومات من قبيل الوعي والإرادة ...ويجعل لهذا الشخص قيمة فما
الذي يؤسس البعد القيمي للشخص ؟ أو بعبارة
أخرى كيف تتحدد قيمة الشخص ؟ وبما أن الشخص كائن طبيعي ،باعتباره ينتمي هو الآخر لعالم الطبيعة
،وكائن اجتماعي ينتمي للمجتمع فهل هذا معناه
أن الشخص ذات خاضعة للضرورة أم أن تميزه بالوعي وبالبعد القيمي ...يجعل منه
كائنا حرا ؟
موقف "ايمانويل مونيي"
يؤكد "ايمانويل مونيي " على أن الشخص كائن
يتميز بالإرادة والوعي والتجاوز...،وهو ما يجعله كائن غير قابل للوصف
والتحديد وليس موضوعا لكي يكون مجالا
للدراسة ،ومهما بذلنا من جهد من أجل دراسته وتحديده وتعريفه ،فإنه
لا يمكننا أن نكون عنه إلا معرفة نسبية ومختزلة ولا تعبر عن حقيقته باعتباره
كينونة نفسية متميزة وتجربة غنية ،فالشخص
يعيش حركة شخصنة ،أي تلك المراكمة المستمرة لسماته الخاصة والمتفردة ،لذلك فالشخص
هو الحقيقة الوحيدة التي نعرفها من الخارج ونعيشها في نفس الوقت من الداخل
،فالشخصية من منظور مونيي ليست معطى ناجزا ،بل إنها نشاط معيش أساسه الإبداع الذاتي والانخراط الذي يحيط
بذاته ويتعرف إليها داخل فعله .من هنا تتحدد قيمة الشخص كذات متميزة بسماتها
الخاصة والمتفردة .
خلاصة تركيبية للمحور:
المحور الثالث: الشخص
بين الضرورة والحرية
التأطير الإشكالي للمحور:
إذا كان الشخص يحظى بقيمة ومكانة ،فذلك راجع
إلى كونه ذات تتميز بمجموعة من السمات وتتصف بالعديد من المقومات من قبيل الوعي والإرادة
والمسؤولية ...،هذه المحددات والمقومات تفيد على أن الشخص كائن حر ،لكن في مقابل ذلك
فالشخص كائن طبيعي مع ما يعنيه ذلك من خضوعه للمحددات الطبيعية، كما أنه ينتمي للمجتمع ويعيش في ظل مجموعة من الإكراهات والإشراطات الاجتماعية
والنفسية والثقافية ...إذن هذا البعد المزدوج الذي يطبع وجود الشخص يضعنا أمام إشكال الضرورة والحرية ويدفعنا لطرح بعض التساؤلات : إذا كان الشخص
كائن الحرية فهل حريته هذه حرية مطلقة أم أنها
مقيدة بالمسؤولية ؟ أليست الحرية مجرد وهم ناتج عن الجهل بالأسباب والحتميات التي
تشرط وجود الكائن البشري ؟ وإذا كان الشخص خاضعا للضرورة ،فهل تقتضي الحرية التخلص من الضرورة أم أن الوعي
بالضرورة هو أساس الحرية ؟
موقف "باروخ سبينوزا." الحرية مجرد وهم ناتج عن الجهل بالأسباب
يعتبر الفيلسوف الهولاندي "باروخ سبينوزا " على أن الشخص خاضع للضرورة الطبيعية ولا يمكن له بأي حال من الأحوال التخلص من هذه الضرورة نظرا لكونه جزء من الطبيعة وبالتالي فإنه خاضع لنظامها وقوانينها ،أما الحرية التي يتبجح الكل بامتلاكها فإنها مجرد وهم ناتج عن الجهل بالأسباب التي تقف وراء سلوكاتنا وأفعالنا ،بحيث نعتقد على أننا أحرار في أفعالنا وسلوكاتنا كوننا نعي رغباتنا بينما سلوكاتنا هذه محكومة بأسباب نجهل حقيقتها ،ولا ينفي سبينوزا الحرية بقدر ما يعتبر على أن الحرية هي الوعي بالضرورة وليس التخلص منه.
موقف العلوم الإنسانية
إن العلوم
الإنسانية بمختلف فروعها أكدت على أن الشخص خاضع للعديد من الإكراهات والحتميات التي
توجه سلوكات الفرد وتحددها ،بحيث ترى المقاربة السوسيولوجية على أن الفرد جزء من المجتمع
هذا الأخير يلعب دورا في ضبط وتوجيه سلوكات الأفراد ،فالمجتمع يعد مصدر سلطة ولا يمكن
للفرد بأي حال من الأحوال أن ينسلخ وينفلت من القيود والمعايير التي يضعها المجتمع
...،من جهة أخرى ترى المقاربة السيكولوجية أن الفرد بنية نفسية محكومة بعوامل التكوين
النفسي وبالتنشئة التي يخضع لها ،وهكذا يعتبر
التحليل النفسي أن "الطفل أب الرجل"
مفاد هذا القول أن الشخصية تتحدد انطلاقا من التنشئة التي يخضع لها الفرد في
طفولتها.
موقف "جان بول
سارتر "
ارتبطت فلسفة
سارتر بالحرية ،بحيث أخذ هذا المفهوم حيزا هاما في فلسفته ،وقد أكد على أن الإنسان
كائن الحرية ،أو كما عبر عن ذلك بقوله "إن الإنسان مقضي عليه بأن يكون حرا
" فالمحدد الأساسي والماهية الفعلية للإنسان من هذا المنطلق هي الحرية ، فالإنسان يعيش بذاته ولذاته ،كما أنه مشروع مادام وجوده يسبق ماهيته ،إذ يوجد أولا ثم تتحدد
ماهيته فيما بعد حسب ما يريده و وفق اختياراته وتفاعله مع الشروط الاقتصادية والاجتماعية
والتاريخية...هذه الشروط والإكراهات لا تكبل
حرية الإنسان كما ذهبت إلى ذلك النزعات الموضوعية ،بل تعد بمثابة مواد أولية لصناعة مشروع الإنسان هذا الأخير يملك حرية الاختيار المطلقة الشيء الذي
يقتضي أن يكون اختياره مسؤولا ،ذلك أن الشخص لا يختار لنفسه فقط وإنما يختار لبقية
الناس .
خلاصة تركيبية للمحور:
حاصل
القول إن إشكالية الشخص بين الضرورة والحرية شهدت اختلافا وتباينا في المواقف ،وذلك
راجع لاختلاف المنطلقات الفكرية والمرجعيات الفلسفية والعلمية ،وهكذا إذا كان
"سبينوزا" قد اعتبر الحرية مجرد وهم ناتج عن الجهل بالأسباب التي تحدد سلوكاتنا
وأفعالنا ،وأن الحرية ممكنة شريطة الوعي بالضرورة
وليس التخلص منها ،فإن "سارتر "ذهب بخلاف ذلك معتبرا أن الحرية هي المحدد
الفعلي للإنسان الذي يملك حرية الاختيار المطلقة
الشيء الذي يقتضي أن يكون اختياره اختيارا مسؤولا مادام أنه حينما يختار فإنه يختار لبقية الناس
.أما العلوم الإنسانية فقد أكدت بمختلف فروعها على أن الشخص خاضع لجملة من الإكراهات
والإشراطات النفسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية ...،والتي لا يمكنه الانفلات
أو التخلص منها نظرا لكون هذه المحددات والإكراهات هي جزء من بنية الكائن الإنساني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق