مجزوءة السياسة
مفهوما الحق والعدالة
تقديم
تتعدد دلالات مفهوم الحق وتختلف من مجال لآخر ،كما أنه أحد
أكثر المفاهيم حضورا في نقاشتنا وتعاملاتنا ،بحيث يستعمل بدلالات متنوعة : فتارة يفيد معنى الحقيقة،
وتارة أخرى يفيد معنى القسط أو النصيب (في الإرث مثلا). وقد يقصد بالحق الذات الإلهية
أو إحدى صفاتها… وقد يعني أحيانا القانون أو التشريع الذي بموجبه ينصف الأفراد وتؤطر
علاقاتهم مع بعضهم البعض ،ويشير إلى الاستقامة والعدل
،كما يدل على الحق في الاستفادة والتمتع بشيء ما(حق الموظف الاستفادة من الترقية ،حق التلميذ الاستفادة من التعليم ،وحق المواطن
في المعلومة ،وحق المريض في التطبيب،... )من هنا يتبن شساعة مفهوم وتباين دلالته من
مجال لآخر.
أما مفهوم الحق في اللغة العربية فإنه يشير إلى الثبات والاستقامة ولا تختلف
دلالته في اللغة الفرنسية كثيرا عن اللغة العربية بحيث نجد على أن كلمة le
droit مشتقة
من الكلمة اللاتينية directus وتعني ما هو مستقيم غير معوج
او لا اعوجاج فيه . وقد عرف "لالاند" الحق بما يلي : "معيار
أو قاعدة أخلاقية ،مقابل ما هو واقع فعلي
" انطلاقا من تعريف "لالاند" نستشف على أن للحق بعدين وهما :البعد
الأخلاقي /المعياري ،والبعد القانوني ،بحيث يشير في دلالته الأخلاقية إلى ما يناقض
الظلم والتعدي على الحق.
في دلالته القانونية فهو يشير إلى مجموع المعايير والقواعد العامة المنظمة للعلاقات
بين الأفراد والتي تحدد وتعرف حقوقهم وصلاحياتهم وهو ما يحدد ما هو إلزامي سواء كان
مسموحا به أو ممنوعا. ويحيل الحق للقوة بحيث إنه يمكن تطبيقه عن طريق السلطة العمومية
المتمثلة في الدولة.
دلالة مفهوم العدالة من الناحية اللغوية
أما مفهوم العدالة
من الناحية اللغوية يدل على ما يلي :
في اللغة العربية العدالة من العدل ،أي ما استقام في النفس ونقيض العدالة الجور والظلم ،والعدل هو الحكم بالحق وهو نقيض الباطل ،والعدل
هو الوجوب والصدق والحقيقة واليقين
وفي اللغة الفرنسية
فإن كلمة justice مشتقة من الكلمة اللاتينية justiciaوأصل هذه الكلمة
بدورها هو juris ، jusأي الحق أما فلسفيا فإنه يحيلنا على مجموع المعايير الأخلاقية والقواعد القانونية التي يعتمدها
مجتمع ما في تنظيم العلاقات بين أفراده فيما يخص الحقوق والجزاءات والواجبات
وانطلاقا من التحديدات
السابقة لمفهومي الحق والعدالة تتبين العلاقة
الوطيدة بين المفهومين ،بحيث كلما ذكرنا أحدهما إلا واستحضرنا الآخر ،غير أن هذه العلاقة
الجدلية لا تخلو من التباس وغموض فهي تطرح العديد من الإشكالات خاصة على ال مستويين السياسي –القانوني-
والأخلاقي يمكن التعبير عنها بالتساؤلات التالية:
ما الحق؟ وما أساسه وطبيعته ؟ وما الفرق
بين الحق الطبيعي والحق الوضعي ؟ ما علاقة الحق بالعدالة ؟وأيهما أساس للآخر ؟ وما العدالة
؟ وهل تقوم العدالة على الحق الطبيعي
أم على الحق الوضعي ؟ وهل يجب أن تقوم العدالة
على المساواة أم على الإنصاف ؟
المحور الاول :الحق الطبيعي والحق الوضعي
التأطير
الإشكالي للمحور
بما أن الحق معيارا
وقيمة أخلاقية وإنسانية ،فإن ذلك جعله أهم القيم التي ناضل الإنسان من أجلها ودافع
عنها ولم يكن الفلاسفة بمنأى عن الانشغال بهذا الموضوع بل كانوا في طليعة المهتمين
بالحقوق الإنسانية إيمانا منهم بمكانة الإنسان وقيمته والتي لا تستقيم إلا بالاستفادة
من كافة حقوقه .هذا المسعى تبلور على شكل نظريات وأطروحات والتي لقيت صدى على أرض الواقع
و تجسدت في مواثيق ومعاهدات كما تجسدت في الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان. والحديث عن الحقوق يقتضي التمييز بين نوعين من الحقوق وهما
الحقوق الطبيعية من قبيل الحق في الحياة والحرية... والتي تتأسس على الطبيعة ويشترك
فيها الإنسان والحيوان مادام كلاهما ينتمي للطبيعة .كما أن هذه الحقوق تتسم بالثبات
وبالكونية...،وفي مقابل هذه الحقوق الطبيعية
نجد الحقوق الوضعية (الثقافية) على غرار الحق في المشاركة السياسية والشغل ....وهي الحقوق التي تواضع الناس حولها أي
أنها نتاج للاتفاق وللتشريع وتتسم بالنسبية باعتبارها تختلف من ثقافة لأخرى و من مكان
لآخر .غير أن وجود نوعين الحقوق تختلفان في طبيعتها وأسسها يدفعنا لطرح بعض التساؤلات
: على ماذا يتأسس الحق ؟هل يتأسس على ماهو طبيعي أم على
ماهو وضعي (ثقافي) ؟ إذا كانت للإنسان حقوق طبيعية يحوزها بحكم طبيعته الأصلية أي سابقة
على حالة التعاقد والتمدن .فما الداعي لإيجاد قوانين وضعية ؟هل يستمد الحق إلزاميته في حالة الاحتكام للقوانين
الطبيعية أم في حالة القوانين الوضعية ؟
1 موقف " توماس هوبس
"
ينطلق هو بس في
مقاربته لإشكالية الحق من الحالة الطبيعية ويعتبر على أن الفرد يتمتع بحق طبيعي يتمثل
في الحرية الكاملة للقيام بكل ما من شأنه أن يضمن حياته ويؤمن استمراريته هذا الحق
الذي يسميه البعض بعدالة الطبيعة .وهو ما يجعل حالة الطبيعة هذه حالة فوضى وعنف ودمار ،ولا أمان للفرد على حياته مهما كانت قوته ومكانته
،فالإنسان في هذه الحالة ذئب لأخيه الإنسان إذ لا يتوانى في محاولة القضاء على الأخر
حتى لا يصبح ذلك الآخر مصدر تهديد خاصة وأن ما يطغى على الإنسان هو الأنانية والنوازع
الغريزية. ..، غير أن العقل الإنساني وبناء على قانون طبيعي أيضا يلزم الفرد للحفاظ
على حياته .وهذا القانون هو ما يدفعه أيضا للتفكير في السلم والدخول للحالة التعاقدية
التي تتسم بالأمن والسلم فهي الكفيلة بالحفاظ على حقوق الفرد الطبيعية .وعليه فإن أساس
الحق طبيعي لكنه لا يستقيم إلا في ظل الدولة أي المجتمع التعاقدي القائم على القانون
الوضعي .
2 موقف "روسو"
يؤكد "روسو" على أن أساس الحق طبيعي ،وينطلق هو الآخر من حالة الطبيعة غير أنه
ينظر إليها نظرة إيجابية باعتبارها حالة خيرة
وجيدة ،وبالتالي فهي مصدر العدالة وموطنها الأصلي ،لكن ما الداعي إلى تجاوزها نحو الحالة المدنية -التعاقد- ؟
إن حالة الطبيعة
تتسم بوجود قانون طبيعي وعدالة كونية منبثقة من العقل ،إلا أن هاته الحقوق لا جدوى
منها ما دام أنه لا وجود لسلطة تلزم الأفراد بالخضوع والامتثال لهذه القوانين ،وهو
ما يجعلها في صالح الشرير وتسبب الشر للعادل ،في حين تقوم الحالة المدنية على التعاقد
،بحيث تكون الحقوق مضمونة للجميع بواسطة القانون الذي يقوم على الإلزام أما حالة الطبيعة فعلى الرغم من وجود قوانين طبيعية
فإنها تفتقر إلى سلطة لتطبيقها وإلزام الأفراد باحترامها ،الشيء الذي يدفع إلى القول
بأن تحقيق العدالة يتوقف على وجود القانون الوضعي الذي من شأنه ضمان الحقوق
الطبيعية للفرد.
3 موقف هانز كيلسن" أساس
الحق وضعي
يتبنى "هانز
كيلسن " تصورا وضعيا بخصوص الأساس الذي
يقوم عليه الحق .،بحيث يعتبر على أن الحق يتأسس على التشريعات القانونية والمؤسسات
القضائية والتنفيذية باعتبارها كفيلة بضمان الحق هذا الأخير الذي يخضع للنسبية وينبغي
أن يتكيف مع واقع المجتمع و تحولاته وما يعرفه من خصوصيات ويتخذ طابع الإلزام عبر المؤسسات
القانونية ،وفي مقابل تبنيه للمقاربة الوضعية فإنه يرفض تأسيس الحق على أساس الطبيعة
وعلى افتراضات معيارية-اخلاقية او ميتافيزيقية كما ذهب إلى ذلك فلاسفة العقد الاجتماعي .
خلاصة تركيبية للمحور:
نخلص من خلال ما
سبق إلى أن التباين في المواقف والتصورات حول الأساس الذي يقوم عليه الحق يرجع لاختلاف
المنطلقات و المرجعيات الفلسفية والفكرية ، فإذا كانت نظريات الحق الطبيعي مع كل من
"هوبس" وروسو"وسبينوزا"أسست الحق على أساس طبيعي نظرا لكون الحقوق
الطبيعية حقوق ملازمة ومحايثة للطبيعة البشرية ،كما هذه الحقوق لا تستقيم إلا بوجود
حقوق وضعية تجعل المجتمع يدخل مرحلة التعاقد الاجتماعي -قيام الدولة- وتجاوز حالة الطبيعة
باعتبارها تعرف غياب سلطة ملزمة من شأنها حماية الحقوق الطبيعية للفرد ،فإن بعض التوجهات
الأخرى تنتصر للمقاربة الوضعية -كيلسن؛' وتعتبر على أن أساس الحق وضعي ،أي الحق المستمد
من التشريعات والقوانين المتواضع حولها التي تكسب الحق إلزاميته وتراعي واقع المجتمعات
وتطورها.
المحور الثاني : العدالة كأساس للحق
التأطير الإشكالي للمحور.
بغض النظر عن الأساس الذي
يقوم عليه الحق سواء أكان طبيعيا أو وضعيا فإن إقرار الفلاسفة والمشرعين والمنظرين
في مجال القانون بأهمية الحق والدفاع عنه وضرورة ترسيخه في المجتمع باعتباره قاعدة
قانونية او أخلاقية يرجع إلى حاجة المجتمع للعدالة وضرورة إقرارها ومعها إقرار المجتمع
العادل الذي لا يمكن أن يقوم إلا باحترام القوانين والاحتكام للتشريعات والنظم القانونية
التي وضعت من أجل صيانة الحق وبلورته بشكل فعلي في حياة الأفراد ،لكن هل العدالة
تجسيد للحق ؟ أو بعبارة أخرى هل العدالة أساس الحق ؟إذا كانت العدالة تتجسد في القوانين
والتشريعات ألا يمكن الحديث عن وجود قوانين ظالمة وجائرة؟ ألا ينبغي الاحتكام للحق
لتحديد ما هو عادل وغير عادل ؟
1 موقف "أرسطو"
ينطلق أرسطو في
مقاربته لإشكالية العدالة بتعريفها فالعدالة في منظوره نقيض الظلم ،والعدل هو أن ينهج الإنسان سلوكا مشروعا
، أي موافقا ومتماشيا مع القوانين المعمول بها ، لكون القوانين هي التي من شأنها أن
تضمن لكل فرد حقه حسب ما يستحق ، وفي مقابل ذلك فإن اللاعدل هو الفعل
الجائر الذي يكتسي طابع الظلم أو بمعنى آخر هو الذي يكوم مخالفا للقوانين ومنافيا للمساواة ويقوم على عدم التوسط بين الإفراط والتفريط ، بحيث
إن الفعل العادل يجب أن يأخذ موقعا وسطا بين الإفراط والتفريط .ومن هنا يمكن القول
على أن العدالة هي أساس الفضيلة مادامت كل الفضائل .توجد في طي العدل كما قال أرسطو
.
2 موقف "فريدريك فون هايك"
يعتبر " فريدريك فون
هايك " على أن القانون لا يكون بالضرورة عادلا ،ففي الغالب توجد قوانين جائرة
،ذلك أن الإفراط في تطبيق عدالة القانون يؤدي في الكثير من الأحيان إلى الظلم ، بحيث
إن التطبيق الحرفي للقانون قد لا يراعي الجانب
الإنساني والاجتماعي ،لذلك ينبغي مراعاة روح القانون لا نصه الحرفي ،وهو ما يعني بالنسبة
"لفون هايك" ربط القانون بالشرعية التي لا تتأسس إلا داخل نظام ومجتمع تسوده
الحرية ،فحرية الأفراد هي أساس الشرعية ..ويعبر هذا الموقف عن تصور ليبرالي يؤمن بالحرية
الفردية هذه الحرية لا يمكن أن تقوم
إلا بوجود منظومة قانونية شرعية
3- موقف "شيشرون"
ينفي "شيشرون"عدالة القوانين المتواضع عليها ،فالقوانين
الصادرة عن التشريعات والمؤسسات ليست تجسيدا للحق ولا يمكن أن تكون عادلة ،لآنها موضوعة
من طرف من لهم مصلحة معينة ،والأكثر من ذلك قد تكون من وضع الطغاة بغية حماية مصلحتهم
وخدمة رغباتهم ،لذا فإن أساس الحق هو الطبيعة ،أو بعبارة أخرى يجب أن تكون القوانين
صادرة عن العقل حتى تكون عادلة ،فالحق لن يستقيم ويتحقق إن لم يكن مصدره الطبيعة وستتلاشى
جميع الفضائل من قبيل الكرم واحترام المقدسات والرغبة في خدمة الغير والاعتراف بما
أسداه لنا من خدمة...طالما أن هذه الفضائل ترجع إلى ميلنا لحب الناس وهذا الحب هو أساس
الحق ،وعليه فإن معيار الحكم والتمييز بين القوانين العادلة وغير العادلة ،أو الأفعال
الحسنة القبيحة هو الطبيعة فهي القاعدة التي تمكننا من التمييز بين الحق والظلم .
التركيب :
خلاصة القول إذا كان بعض الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو يعتبرون
على أن العدالة تقتضي احترام القوانين وطاعتها ،فإن البعض الأخر قد اعتبر على أنه لا
يمكن أن تكون العدالة أساس الحق ،نظرا لكون القوانين قد تكون جائرة وظالمة خاصة في
حالة التطبيق الحرفي للقانون .لذا فالعدالة لا يمكنها أن تقوم إلا في إطار منظومة قانونية
تتسم بالشرعية وباحترام الحرية الفردية ،والاستناد لروح القانون لا نصه الحرفي.
المحور الثالث
: العدالة بين المساواة والإنصاف
التأطير الإشكالي
للمحور.
إذا كانت العدالة
تروم صيانة الحقوق وحمايتها والفصل بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه ،طالما أن الحق مطلب
إنساني وكوني ناضل الإنسان من أجله منذ قرون خلت؛ فإن هذا الأمر سيجعلنا في صلب الإشكالية المتعلقة بالعدالة بين المساواة
والإنصاف ويمكن أن نعبر عنها من خلال التساؤلات التالية :
هل ينبغي أن تقوم العدالة على المساواة أم على الإنصاف ؟ أليست العدالة القائمة
على المساواة المطلقة ظالمة وجائرة ؟ بعبارة أخرى هل العدالة القائمة على المساواة
المطلقة بإمكانها إنصاف جميع الناس ؟ألا ينبغي اعتماد الإنصاف كأساس للعدالة ؟
1 موقف أفلاطون
يرى أفلاطون على أن العدالة
هي أن يقوم كل فرد بعمله وفق قدراته و مواهبه التي منحت له بحكم الطبيعة ،وذلك ليتحقق
الانسجام على مستوى النفس أولا ثم المجتمع ثانيا ،وفي هذا الصدد يعتبر أفلاطون على
أن المجتمع ينقسم لثلاث فئات حسب قوى النفس التي تغلب عليها وهي :
فئة الحكماء\الفلاسفقة، والذين تغلب عليهم النفس العاقلة
وهم المؤهلين لممارسة مهام الحكم-السياسة- كونهم يغلبون قواهم العقلية ولهم القدرة
على ضبط شهواتهم
-فئة الجنود وتغلب عليهم
النفس الغضبية وهم الذين يتحلون بالشجاعة و مؤهلون لحماية المدينة
وأخير فئة الصناع والعبيد والذين تغلب عليهم النفس الشهوانية
وهم مؤهلون بحكم بطبيعتهم للقيام بأعمال الزراعة والأعمال اليدوية...
من هذا المنطلق يرى
أفلاطون أن المدينة في حاجة لثلاث أشياء ضرورية وهي الحكمة-المعرفة-والحماية والغداء
هذه الأشياء الثلاثة الضرورية هي التي استند إليها التقسيم والتي تنسجم مع القدرات
الطبيعة التي جعلت الأفراد غير متساوين من حيث قدراتهم ومواهبهم، ولكي يحصل الانسجام
والتكامل داخل المجتمع ويتحقق كمال المدينة وتتجاوز الأعطاب التي كانت تعرفها والتي
تجسدت بشكل جلي في موت "سقراط" الذي تم إعدامه باسم الديمقراطية، فقد عمل
أفلاطون على وضع تصور للعدالة يتأسس على ضرورة أن ينصرف كل واحد إلى عمله ودون التدخل
في شؤون الآخرين ،فالعدالة من المنظور الأفلاطوني تتأسس على التفاوت الذي أملته
الطبيعة وعلى اللامساواة وليست على المساواة أو الإنصاف ولا تتأسس على القوة وعلى المصلحة
الذاتية كما كان يدعي الموقف السفسطائي ،وإنما العدالة قيمة أخلاقية تهدف إلى تحقيق
الفضيلة وكمال المدينة عبر الانسجام بين فئات المجتمع .
2 موقف "ماكس شيلر"
بخلاف التصور الذي يدعو إلى المساواة
المطلقة ،يعتبر الفيلسوف الألماني "ماكس شيلر" على أنه من الجور والظلم الإقرار
بتساوي الناس بشكل مطلق ،فالعدالة في نظره ينبغي أن تراعي التفاوت الفكري والاجتماعي
.لأن العدالة المنصفة هي التي تأخذ بعين الاعتبار اختلافات الناس وتمايز طبائعهم وقدراتهم
واستعداداتهم ومؤهلاتهم .فالناس يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا ايجابيا وخلاقا. إن المساواة
المطلقة بين البشر لا تؤدي إلى عدالة حقيقة ما دامت لا تمنح للأفراد الحرية في التعبير
عن مواهبهم وقدراتهم الخلاقة ،بل الأكثر من ذلك فالمطالبون بالمساواة المطلقة ليس إلا
تعبيرا منهم عن الحقد والكراهية لأنه خلف هذه المساواة المنشودة تكمن رغبة جامحة في
خفض الأشخاص المعتبرين والأكثر كفاءة وموهبة
وجعلهم في مستوى الأشخاص الذين هم في
أسفل درجات السلم ..
خلاصة تركيبية للمحور.
حاصل
القول إن رهان تحقيق العدالة كان بغاية الدفاع عن المساواة وجعل الأفراد متساوين في
الحقوق والواجبات دون تمييز أو تفاضل خاصة وأن للإنسان حقوق كونية عامة ومشتركة يتساوى
فيها جميع الناس مهما كانت مكانتهم ومرتبتهم أو دينهم ولون بشرتهم...،لكن الملاحظ هو
ان المساواة يمكن أن تخرق مبدأ العدالة وتكون هي أساس الظلم باعتبارها لا تراعي قدرات
الناس واختلاف مواهبهم وما يبذلونه من مجهود...،من هنا جاءت الدعوة لأن تكون العدالة
قائمة على مبدأ الإنصاف الذي يراعي الفروقات والاختلافات بين الأفراد ويقوم على إعطاء
كل ذي حق حقه وفق ما يستحقه
.
خلاصة عامة لمفهومي الحق والعدالة
يمكن القول على أن العلاقة بين مفهومي
الحق والعدالة جد وطيدة ،بحيث لا يستقيم الحديث عن هاذين المفهومين في احايين كثيرة
دون استحضارهما معا ،فالحق يدل على العدل والاستقامة ،والعدالة لا تقوم إلا بإحقاق
الحق وصونه. والحق رهين بالعدالة وقوانينها .فالعدالة تجسيد للحق سواء أكان هذا
الحق ذا أساس طبيعي كوني أو وضعي ثقافي. ولما كانت القوانين جائرة أحيانا، خاصة إذا
قامت على المساواة المطلقة ،فإن العدالة أضحت مطالبة بأن تقوم على الإنصاف بدل المساواة
المطلقة. وقد صيغت نظريات وتعالت الأصوات بضرورة إقرار العدالة ليس بين أفراد الجيل
الواحد وإنما حتى بين الأجيال. لتخلص في النهاية إلى أن إشكالية الحق وعلاقته بالعدالة
بوجه عام لا يمكن الحسم فيها ،بل لا زالت في حاجة للنقاش والسجال الفكري والقانوني
والسياسي خاصة وأن المجتمعات تشهد تطورات متسارعة ومختلفة في شتى المجالات الشيء الذي
يقتضي أيضا إعادة طرح هذه الإشكالات للواجهة ومساءلتها نظريا وعمليا حتى تواكب التحولات
التي يعرفها المجتمع وتسهم في الثراء الحاصل في هذا الميدان الذي يعد حصيلة قرون قضاها
الإنسان في الدفاع عن هذه القيام وظل متشبثا بها رغم المطبات المآسي التي عانى منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق