مفهوم العنف

مجزوءة المعرفة

مجزوءة المعرفة 


تقديم 
      تعد المعرفة نشاطا وفاعلية الإنسان سعى من خلالها معرفة  ذاته والآخرين وما يدور ويحيط حوله من ظواهر، لكن  إذا كانت هذه المعرفة  قد اتسمت في بدايتها بكونها معرفة أسطورية/ وميتافيزيقية فيما بعد ،فإن السعي الحثيث للعلماء جعل هاته المعرفة  تصبح بناء منظم ،وليس مجرد معطيات حسية وانطباعات ،كما أن الرغبة في السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان دفع بالعلماء إلى تنظيم نشاطهم وتقديم أنساق وأبنية منطقية أو ما يطلق عليه بالنظريات ،كما أن  الانتقال من التجربة الحسية والتجريب كمساءلة منهجية للطبيعة قد لعب دورا حاسما فيما شهدته البشرية من ثورات علمية ونتيجة الانبهار بما حققته العلوم الدقيقة (الفيزياء،الرياضيات،....) فلم يكتف العلماء بالطبيعة كموضوع للتناول العلمي، بل اتجهوا إلى جعل الإنسان موضوعا للدراسة أيضا في إطار ما يسمى بالعلوم الإنسانية. هذه الأخيرة التي وجدت في طريقها العديد من المشكلات الابستيمولوجية كمسألتي الموضوعية والمنهج،....
      وفي الأخير يمكن القول على أن السعي للوصول إلى الحقيقة قد شكل دافعا أساسيا باعتبارها مطلب كل بحث نظري ،وقيمة أخلاقية والتي لازال الإنسان يتطلع إليها. وقبل الخوض في القضايا الإشكالية فإنه لابد من الاسترشاد بالتساؤلات التالية :
    ما أساس المعرفة ؟ هل التجربة أم العقل؟ وإذا كانت التجربة هي أساس بناء المعرفة فما دور العقل ؟ ألا يمكن أن  يكون العقل والتجربة معا هما أساس بناء النظرية العلمية ؟ وماهي معايير علمية النظرية العلمية ؟ وإذا كانت هذه المساعي لبلوغ الحقيقة فما هي معايير الحقيقة ؟ هل الحقيقة بناء أم معطى ؟ وكيف يمكن النظر للحقيقة كقيمة  أخلاقية ووجودية ؟

مفهوما النظرية والتجربة

   تقديم :
     يدل مفهوم النظرية في التداول اليومي على معاني الرأي والحكم والقول... ،يقال ما رأيك ؟ وما نظرك ؟ ما حكمك ؟، وبذلك فإن هذه المعاني تحيلنا على  التعالي والتسامي والابتعاد عن الممارسة والواقع .... 
التعريف المعجمي للنظرية:
النظرية" مجموعة من الأفكار والمفاهيم المنظمة قليلا أو كثيرا  والمطبقة على ميدان مخصوص"
"بناء عقليا منظما ذا طابع  فرضي تركيبي..." معجم روبير
:إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ"  معجم لالاند
انطلاقا  من التحديدات المشار إليها  يمكن القول  على أن النظرية  هي :
  بناء فكري منظم ، يتخذ صورة  نسق من المبادئ والقوانين التي يتم بها تفسير الظواهر التي تمثل موضوع البحث .
    أما لفظ التجربة فإنه يشير إلى ما يراكمه الإنسان من خبرات في حياته ...،كما أنها تدل على  مجموع المعارف و الخبرات التي يكونها الإنسان في علاقته المباشرة بالواقع، وتشير أيضا إلى اكتساب مهارة معينة ينتج عنها إتقان عمل أو مهنة ما...لكن النظرية في المجال العلمي تعني إعادة إحداث الظاهرة بعد ملاحظتها في شروط محددة (إنشاء التجربة مخبريا). وقد لعب التجريب دورا أساسيا في مسار العلوم التجريبية على وجه الخصوص .
   بناء على التحديدات المشار إليها ،يتضح أن النظرية تأخذ طابع التجريد باعتبارها تجريدا ذهنيا ومفاهيميا يحيل على العقل ويتعالى ما هو تجريبي ملموس ،بينما تمثل التجربة حضور الواقعي وما هو ملموس، إلا أن هذا الحوار بين النظرية والتجربة يجعلنا أمام بعض التساؤلات :
ما دور كل من العقل والتجربة العلمية في بناء الحقيقة العلمية  ؟ و ماهي المعايير التي تحكم صلاحية النظريات العلمية؟

المحور الأول: التجربة والتجريب

 تأطير إشكالي
   يقتضي الحديث عن التجربة ودورها في بناء النظرية العلمية التمييز بين نوعين من التجربة وهما: التجربة العامية /التجربة الخام. والتجربة بمعناها العلمي ،فما المقصود بالتجربة العامية/الخام ؟وما دلالة التجربة العلمية ؟ وإذا كان التجريب العلمي قد لعب دورا أساسيا في بناء النظرية ،فما دور التجربة ؟ هل ساهمت التجربة  بدورها في بناء النظرية العلمية وتقدمها  أم شكلت عائقا ابيستيمولوجيا أمامها؟
1-موقف "ألكسندر كويري" الفرق بين التجربة والتجريب
  يميز"أ. كويري" بين التجربة والتجريب ،فإذا كان هذا الأخير نشاط علمي وممارسة منهجية يقوم بها العالم من خلال الاعتماد على خطوات دقيقة تتوجه صوب الطبيعة لمساءلتها منهجيا مستعينا في ذلك بلغة رياضية علمية، فإن التجربة بمعناها الخام والعامي فهي مجرد خبرات ترتبط بالحياة اليومية وبالرأي المشترك  بين عامة الناس، وليست إلا تعبيرعن اعتقاداتهم إحساساتهم الذاتية ،ولم تلعب أي دور في تاريخ العلم ، وإنما شكلت عائقا ابيستيمولوجيا أمام  تقدمه.
 2  موقف "كلود برنار" خطوات المنهج التجريبي الكلاسيكي
     يقدم الطبيب الفرنسي "كلود برنار" مثالا لتجربة علمية (التجربة التي قام بها على الأرانب). التي نستشف من خلالها خطوات المنهج التجريبي الذي يختلف عن التجربة بمعناها العامي ، فالتجربة العلمية تقوم على أسس ومقومات وهي :
   -الملاحظة: وهي المعاينة الأولية للظاهرة
   -الفرضية :هي جواب مؤقت عن السؤال وفكرة تستبق المجهول
   -التجريب: التحقق من الفرضية بإعادة إنشائها مخبريا.
    -القانون: العلاقة الثابتة بين ظاهرتين أو أكثر/صيغة رياضية  
  بهذا يكون  " كلود برنار"  قد  وضع خطوات المنهج التجريبي الكلاسيكي القائم على الخطوات الأربعة  مجسدا بذلك شروط التجربة العلمية  بمعناها العلمي
3 موقف "أرماند كوفلييه"
  يستعرض "كوفلييه "مثالا لتجربة علمية والتي تتعلق بانحسار جذب الماء من أحد الخزانات عند انخفاض نسبة ارتفاعه ،والتي ساهم في بلورتها على التوالي كل من "غاليلي " و"تورتشيلي "،ثم "باسكال" وتقوم هاته التجربة على مجموعة من الخطوات ،أولها ملاحظة الظاهرة أو الواقعة أو المشكلة ،وهو ما يدفع إلى طرح التساؤلات وهذه الأخيرة تقود العالم إلى إنشاء فرضيات علمية والفرضية يتم تأكيدها أو تصحيحها أو دحضها (التحقق) عن طريق التجريب الذي يؤدي إلى صياغة القانون /الاستنتاج الذي يعتبر تفسيرا للظاهرة الملاحظة
-4 موقف "روني توم"
     ينفي "روني" وجود ما يسمى بالمنهج العلمي خاصة المنهج بمعناه الديكارتي باعتباره مجوعة من  الخطوات المنظمة والتي تتسم بالصرامة ويعتبر أن الحديث عن المنهج بهذا المعنى هو أمر شبيه بالأسطورة ،وفي مقابل ذلك يتحدث عن وجود فعالية تجريبية/ووقائع تجريبية  تقوم على خطوات (عزل المجال الزمكاني – تحديد النسق المدروس- إعادة إنشاء الواقعة ...)  وبهذا يكون " روني توم" قد تجاوز المنهج التجريبي في صورته الكلاسيكية ، ودافع في مقابل ذلك عن وجود فعالية تجريبية تتيح اقحام عنصري الخيال والافتراض ، بحيث ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي من خلال إحداث تجارب ذهنية  مصطنعة وخيالية  والتي من شأنها أن تمنح للواقع غنى.
ü   خلاصة تركيبية للمحور
    نخلص من خلال ما سبق إلى أن التجربة بمعناها العامي والمتداول تختلف عن التجربة  بمعناها العلمي ،فالتجريب داخل الممارسة العلمية وكما يرى ذلك " كويري"  عمل منهجي يخضع لضوابط وشروط ويتجه صوب الطبيعة لمساءلتها بلغة علمية رياضية ،وفي ذات السياق يتبين من خلال التجربة التي قام "كلود برنار " على أن  التجربة العلمية تقوم على خطوات منظمة ودقيقة وتتجلى في أربع خطوات وهي: الملاحظة والفرضية والتجريب  والاستنتاج /القانون. وإذا  كانت هذه الخطوات لا تعبر إلا عن المنهج التجريبي  في صورته الكلاسيكية ،فإن "روني توم " قد حدد هو الآخر شروط التجربة العلمية ودافع عن فعالية تجريبية تقوم على إكمال الواقعي بالخيالي ،وذلك بإحداث تجارب ذهنية تعتمد على الافتراض والخيال .لكن إذا كانت التجربة العلمية  هي أساس بناء النظرية العلمية فما دور العقل ؟ هل القول بالتجربة تهميش لدور العقل ؟ ألا يمكن الحديث عن عقلانية علمية تجمع بين العقل والتجربة في بناء النظرية العلمية ؟ وما منزلة كل من العقل والتجربة في بناء النظرية ؟ 

المحور الثاني : العقلانية العلمية

التأطير الإشكالي للمحور :

لقد عرفت المعرفة العلمية تطورات هامة جدا ،وذلك بفضل الاعتماد على المنهج التجريبي باعتباره ممارسة علمية قائمة على شروط علمية دقيقة وصارمة  ،وفي مقابل ذلك استبعد العلماء التجربة العادية –الجربة الخام – باعتبارها لم تلعب أي دور في تاريخ العلم اللهم دور العائق باعتبارها مجرد انطباعات ذاتية ...،أما التجريب العلمي فإنه يتسم بحضور البعدين النظري –العقل- والبعد التطبيقي –الواقع- ،هذا التداخل بين البعدين النظري والتطبيقي هو ما يطلق عليه بالعقلانية العلمية والتي تشير إلى الحضور القوي للعقل في بناء النظرية العلمية  ،فما هي إذن خصائص العقلانية العلمية ؟ وما حدودها ؟ وإذا كانت هذه العقلانية تستلزم البعدين النظري –العقل – والبعد الواقعي –التجربة- فما مزلة كل منهما في بناء النظرية العلمية ؟
 1موقف "هانز رايشنباخ"

    انطلاقا من نزعته الوضعية يؤكد "رايشنباخ"على أن أساس المعرفة هو العقل مطبقا على مادة الملاحظة، ولذلك فإنه يميز بين مفهومي "العقلانية" و"المعقولية"، ويعتبر أن العقلانية لا علاقة لها بالمعرفة العلمية وإنما ترتبط بالتأملات الفلسفية وبالمذاهب التي تجعل العقل هو أساس المعرفة ،لكن بتعالي هذه المذاهب عن التجربة فإن ذلك هو ما يؤدي بها إلى السقوط في المثالية (الصوفية) كما هو الشأن بالنسبة للعقلانية المثالية التي تعود "لأفلاطون". والعقلانية الحديثة مع "ديكارت". ويراهن "رايشنباخ" من خلال هذا النقد اللاذع إلى الدفاع عن عقلانية علمية تجعل من الملاحظة والتجربة منطلق لكل معرفة علمية.
 موقف "ألبير اينشتاين "
   يدافع "اينشتاين" عن دور العقل وأهميته في بناء المعرفة العلمية ،فالعلم ليس وليد التجربة ،وليست تصوراته نقلا للواقع ،بل نتاجا لإبداع فكري حر يهدف إلى تكوين نظرية حقيقية حول الواقع .ومادامت النظريات لا تقوم على أساس التجريب فإن هذا الأمر يفيد على أنها إنشاءات عقلية حرة وقابلة للتعدد والتنوع، لكن دون إغفال دور التجربة ،فأساس المعرفة من منظور "انشتاين "هو حوار وتفاعل بين العقل والتجربة ومن هذا المنطلق تتحدد منزلة كل من العقل والتجربة داخل نسق الفيزياء النظرية فالعقل يمنح النسق الفيزيائي بنيته على نحو يجعل العلاقات الرياضية تتناسب مع معطيات التجربة لكن معطيات هذه الأخيرة يجب أن تتكيف مع الواقع. 
خلاصة تركيبية للمحور

خلاصة القول إن أساس النظرية العلمية يتوقف على العقل والتجربة، لكن الاختلاف والتباين في المواقف  حول  منزلة ودور كل منهما في بناء النظرية العلمية  راجع لاختلاف المنطلقات الفلسفية والعلمية ولطبيعة النظرية  ،فإذا كان "رايشنباخ " يولى الأهمية للتجربة والمعطيات الحسية على حساب العقل بحكم توجهه الوضعي-التجريبي- فإن "روبير بلانشي "دافع عن عقلانية تجريبية معاصرة تتجاوز النزعتين التجريبية  والعقلانية –الصورية-  وتقوم العقلانية التجريبية المعاصرة على التفاعل بين كل من العقل والتجربة ،بحيث أضحى العقل مطالبا بمراجعة قواعده ومبادئه  بإيعاز من التجربة ،وذلك قصد مواكبة التطورات التي عرفها العلم المعاصر .أما "ألبير إنشتاين " فقد أكد على أن أساس النظرية العلمية  في مجال الفيزياء النظرية هو العقل الرياضي  الخلاق  في حين تعد التجربة بمثابة مرشد للعالم من أجل اختيار مبادئه كما أن معطيات التجربة هي التي يجب أن تتوافق  وتتلاءم مع النظرية وليس العكس.

المحور الثالث : معايير علمية النظريات

التأطير الإشكالي للمحور :

   رأينا فيما سبق على أن النظرية العلمية تختلف عن نظيرتها في مجالات أخرى ،بحيث تتسم  النظرية العلمية بالمعقولية والدقة والموضوعية ...،غير أن اختلاف الأسس النهجية والمنطلقات العلمية يدفعنا للتساؤل حول المعايير التي تحكم صلاحية النظريات العلمية ،فما هي إذن  المعايير التي تحكم صلاحية النظريات وعلميتها ؟هل النقد كفيل للتأكد من صدق النظرية العلمية أم أن  التحقق التجريبي كما ترى التوجهات التجريبية هو الأنسب للتحقق من صلاحيتها ؟ ألا يمكن  أن يكون معيار القابلية للتكذيب – التزييف/التفنيد- هو المعيار الأنسب لاختبار النظرية والتحقق من صحتها ؟
  1- موقف "الحسن بن الهيثم" معيار النقد
   يتخذ "الحسن بن الهيثم" من النقد معيارا لقياس مدى علمية نظرية ما ،إذ يؤكد على أن كل نظرية يجب أن توضع موضع نقد خاصة وأن كل ما يقدمه العلماء يحظى بالتصديق والقبول من طرف الجميع ،إلا أن هذا النقد يجب أن يتم  دون تطاول أو تحامل ولكن بغاية الوصول إلى الحق وهو الأمر الذي قام به "الحسن بن الهيثم" نفسه من خلال انتقاده لنظرية "بطليموس"(الشكوك على بطليموس).حيث عمل على محاولة كشف جوانب ضعف هاته النظرية ومكامن قصورها.
 - 2  موقف "كارل بوبر" معيار القابلية للتكذيب .
   إن المعيار الذي يجب أن تقاس به علمية النظرية حسب "كارل بوبر" هو قابليتها للتكذيب(التزييف/التفنيد).يعني ذلك أن النظرية لا يمكن أن تتصف بصفة العلمية إلا إذا كان العالم قادرا على تقديم الإمكانات والاحتمالات الممكنة لتكذيبها وكيفية هدمها وتجاوزها ،حيث لا وجود لنظرية علمية تتصف باليقين المطلق ،وبذلك يكون "كارل بوبر "قد قدم تصورا ضدا على النزعة الوضعية التي تتبنى معيار التحقق التجريبي ومفاده أن صلاحية النظرية وعلميتها تتوقف على مطابقتها للواقع وصمودها أمام الاختبارات التجريبية 
.  خلاصة تركيبية للمحور
نخلص من خلال ما سبق إلى أن علمية النظرية تتوقف على استجابتها لبعض الشروط  والمعايير ،وللتأكد من النظرية فقد أكد "الحسن بن الهيثم" على ضرورة تمحيص النظرية  من جميع جوانبها ونقدها دون تسامح أو تطاول قصد بيان عيوب النظرية ومكامن ضعفها ومواطن قوتها ،أما " كارل بوبر "فقد وضع معيار القابلية للتكذيب –التزييف /التفنيد- بحيث يعتبر أن النظرية لا يمكنها أن تكون علمية إلا إذا كان صاحبها قادرا على تقديم الاحتمالات الممكنة لتكذيبها قصد تصحيحها ،في مقابل ذلك اقترح "بيير تويليي" معيار تعدد الاختبارات  باعتباره هو المعيار الكفيل بأن يمنح للنظرية تماسكها وغناها النظري  ،منتقدا في الآن ذاته معيار التحقق التجريبي الذي تبنته النزعات الوضعية التي تؤكد أن علمية النظرية تستلزم صمودها وتطابق نتائجها أمام الاختبار التجريبي.


م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوما الحق والعدالة

مفهوم العنف