مفهوم العنف

مفهوم الحقيقة




مفهوم الحقيقة

 


تقديم إشكالي:
   تشكل الحقيقة غاية كل تفكير وكل خطاب حيث تعد مثلا أعلى لكل بحث نظري وغاية أسمى لكل سلوك عملي ولذلك فقد احتلت مكانة محورية داخل الأنساق الفلسفية ،خاصة وأن الفلسفة في حد ذاتها  هي البحث عن الحقيقة، وقد ارتبطت الحقيقة بنظرية التطابق "التوافق "بين الشيء والحكم، أو كما عبرت عنه الفلسفة الإسلامية " مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان" كما أنها ارتبطت بالأحكام والقضايا، وفي ظل تعدد الحقائق واختلاف أنواعها فإن ذلك ما دفع العديد من الفلاسفة إلى البحث في مسألة المعايير التي تحكم الحقيقة، والتساؤل عنها كقيمة أخلاقية ووجودية وعملية،ومن تم يتبين الطابع الإشكالي لهذا المفهوم والذي سوف نتناوله انطلاقا من التساؤلات التالية: ما علاقة الرأي الحقيقة؟ هل الحقيقة بناء أم معطى؟ وهل الرأي يتعارض مع الحقيقة؟ وماهي معايير الحقيقة؟ وكيف نظر الفلاسفة للحقيقة بوصفها قيمة؟

المحور الأول :الحقيقة والرأي
التأطير الإشكالي للمحور :
بما أن الحقيقة هي صدق البحث المعرفي والتأمل العقلي واستبعاد لكل ما هو قائم على المعتقدات والمبادئ الشخصية والذاتية ،فإن هذا الأمر جعل الكثير من الفلاسفة يستبعدون الرأي ويعترضون عليه ،على الرغم من أن الحقيقة قد تتخذ شكل رأي .لكن لماذا الاعتراض على الرأي ؟وهل يتعارض الرأي مع الحقيقة أم أم أنه جزء منها ؟ وهل تقتضي الحقيقة القضاء على الرأي وتجاوزه وهدمه ؟

رينيه ديكارت" ضرورة التخلص من الآراء السابقة.
    يرى "ديكارت" على أن الفيلسوف يجب أن يبدأ من لا شيء والتخلص من الافتراضات المسبقة، والأحكام الجاهزة والتي سبق وأن تلقاها من الوسط الاجتماعي وهو الأمر الذي انطلق منه "ديكارت" نفسه ،بممارسة الشك المنهجي كآلية من أجل تأسيس معارفه على أسس أكثر صلابة ويقينا، إذ شك في كل شيء إلا في كونه يشك ،وهو ما أفضى به إلى" الكوجيتو" أنا أشك ،أنا أفكر ،إذن أنا موجود" ولم يكن ذلك إلا بغاية التخلص من الآراء والأفكار الخاطئة، والوصول في مقابل ذلك إلى الحقيقة التي تستلزم منهجا من شأنه أن يؤدي بنا إلى ذلك ،ما يعني أن معيار الحقيقة هو البداهة الوضوح.
2- موقف "غاستون باشلار" الرأي عائق أمام الحقيقة.
       يعتبر "غاستون باشلار" على أن الحقيقة العلمية تتعارض مع الرأي حيث يعد هذا الأخير نتاج للاعتقادات السائدة بين الناس هؤلاء ينجذبون إلى ما يخدم مصالحهم وميولاتهم ،ولذلك يظل الرأي عالما وهميا ينبغي التخلص منه ،باعتباره تفكيرا ناقصا أو بالأحرى أنه لا يفكر ،ومن تم وجب هدمه والقضاء عليه ،لكونه يشكل عائقا أمام المعرفة العلمية التي تعد بناء في حين يظل الرأي مجرد معطى ،وهكذا فالحقيقة العلمية يتم التوصل إليها عبر العودة إلى الأخطاء الماضية والعمل على تصحيحها وتصويبها ،فالعلم كما يقول "باشلار" ما هو إلا تاريخ أخطائه "،والحقيقة  عملية بناء وتشييد واستبعاد للخطأ بخلاف الرأي الذي يتصف بكونه لا يفكر فهو معطى ،جاهز و قبلي كما أنه ذاتي ،ما يعني أن الحقيقة تتعارض مع الرأي.
موقف "ليبنز" الرأي جزء من الحقيقة
يعتبر "ليبنز "على أن الرأي جزء من الحقيقة على الرغم من كونه قائم على الاحتمال ،فالكثير من المعارف قائمة على الاحتمال  من قبيل المعارف التاريخية والمعارف غير البرهانية بوجه عام  ،وبإقصاء الرأي يجب إقصاء وإسقاط هذه المعارف  التي تقوم على الرأي وما يعضد ويرفع من قيمة الرأي ويمنحه مكانة وأهمية هو الدور الذي يمكن أن يقوم به في تقدم المعرفة البشرية ،ويعتبر "كوبيرنيك " خير مثال في هذا الصدد ،فلقد كان وحيدا في رأيه  وكان رأيه هذا غير مؤكد وقائم على الاحتمال ،إلا أنه تأكد فيما بعد وشكل ثورة في ميدان المعرفة بوجه عام وفي علم الفلك على وجه التحديد .
خلاصة تركيبية للمحور :
حاصل القول إن مجمل المواقف قامت على استبعاد الرأي معتبرة إياه يتعارض مع الحقيقة .ففي هذا الصدد استبعد "أفلاطون" الرأي كونه ينبني على الظن الخاطئ والفاسد .أما " الفيلسوف الفرنسي "رنيه ديكارت " وانطلاقا من فلسفته العقلانية فقد أكد على أن الحقيقة تتطلب القيام بمراجعة شاملة وفاحصة لمختلف الآراء والمعارف السابقة ،والتخلص من مختلف الأحكام الجاهزة والمسبقة  قصد تأسيس الحقيقة على أسس  يقينية صلبة ،ولم يختلف تصور الفيلسوف والابيستيمولوجي الفرنسي "غاستون باشلار " كثيرا عن موقفي أفلاطون وديكارت " ،بحيث أكد هو الآخر على ضرورة تجاوز الرأي  والعمل على هدمه وتجاوزه كونه يتأسس على الانطباعات الشخصية والذاتية  ،وما هو إلا تعبير عن حاجات معرفية كما أنه لا يفكر ،لذلك فهو يتعارض  مع الحقيقة العلمية ...،لكن بخلاف المواقف السالفة الذكر التي أكدت مجملها على تعارض الحقيقة مع الرأي فإننا نجد بعض المواقف التي دافعت عن قيمة الرأي وأهميته  للمعرفة  كما هو الحال بالنسبة للفيلسوف الألماني "ليبنز" الذي يعتبر على أن الرأي على الرغم من كونه قائم على الاحتمال إلا أنه يشكل جزءا من الحقيقة  كما أن الكثير من الآراء كانت  بمثابة الإرهاصات الأولية لبروز نظريات علمية كما هو الحال بالنسبة لنظرية كوبرنيك  ،بالإضافة إلى ذلك فإن إقصاء الرأي يتطلب إقصاء الكثير من المعارف الأخرى من قبيل المعرفة التاريخية .لذلك تتأكد قيمة الرأي ومكانته
المحور الثاني : معايير الحقيقة
التأطيرالإشكال للمحور:
إن تعدد الحقائق واختلافها من مجال لآخر نظرا لاختلاف منطلقاتها والمعايير التي تحكمها يدفعنا للتساؤل حول معايير هذه الحقيقة .فما هي إذن معايير الحقيقة ؟ هل معيار الحقيقة معيار مادي تجريبي أم معيار منطقي –صوري -؟أليس الحقيقي هو النافع والمفيد ؟
موقف "مارتن هايدغر" التصورات الكلاسيكية لمفهوم الحقيقة .
  يستعرض "هايدغر" التصورات الكلاسيكية لمفهوم الحقيقة ،والتي ارتبطت بمنظورين :أولهما اقتران الحقيقة بالأشياء والوقائع من منطلق أصالتها أو زيفها في الحس المشترك، فحقيقة الشيء تتوقف على واقع الشيء وماهيته، ومدى تطابقه مع نفسه، فالحقيقي هنا هو الواقعي.
    كما أن الحقيقة ارتبطت أساسا بالأحكام والقضايا ،أي الحقيقة كتطابق بين الحكم وموضوعه، هذا التصور الذي برز مع "أرسطو" تم تبلور في الفلسفة العربية الإسلامية وهو ما عبرت عنه هاته الأخيرة بالقول "مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان".
موقف دافيد هيوم  الحقيقة التجريبية والحقيقة الصورية.
يميز هيوم في موضوعات العقل البشري بين: موضوعات تتأسس على علاقة الأفكار  فيما بينها، و أخرى تقوم على العلاقات بين الوقائع. العلاقات الأولى تدرسها العلوم الرياضية وتعبر عنها بقضايا رياضية أما الثانية فهي تلك التي تدرسها العلوم التجريبية و العلوم الأخلاقية وحدها بل هي ما تشكل أيضا موضوع حياتنا العملية. وبذلك فالحقيقة حسب هيوم نوعان: ، حقيقة مادية ومعيارها التجربة الحسية ،أي ملاءمتها لموضوعها في الواقع، وحقيقة صورية عقلية ومعيارها العقل والبرهان :أي خُلُوُّها من التناقض.
التركيب :
نخلص من خلال ما سبق إلى أن اختلاف معايير الحقيقة وتعددها يرجع لتعدد مجالاتها ،وما دامت الحقائق متعددة ،فإن معايير الحكم عليها متعددة أيضا ،وهكذا إذا كانت الفلسفة الكلاسيكية قد اعتبرت الحقيقة إما تجريبية ومعيار الحكم عليها هو معيار مادي تجريبي (التوافق).وإما عقلية ومعيار الحكم عليها معيار عقلي صوري (التطابق).فإن التحولات التي مست مختلف الحقول المعرفية والنقاش والسجال الذي رافق مفهوم الحقيقة سيجعل الفلاسفة يتناولون هذا المفهوم في علاقته بمختلف الممارسات الاجتماعية والسياسية ..،وأصبحنا أمام معايير أخرى من قبيل المعيار الاجتماعي والسياسي كما هو الحال مع "ميشيل فوكو "الذي اعتبر معيار الحقيقة هو السلطة ،والتصور البرغماتي مع "وليام جيمس " الذي أكد على أن معيار الحقيقة هو المنفعة ،أو بعبارة أخرى الحقيقي هو العملي والمفيد .
المحور الثالث:الحقيقة كقيمة
التأطير الإشكالي للمحور :
تعتبر الحقيقة مسعى ومطلب الناس أجمعين باعتبارها قيمة ،لكن لماذا يبحث الناس عن الحقيقة ؟ هل لكون الحقيقة واجب أخلاقي  وغاية في ذاتها أم باعتبارها قيمة عملية  ؟
موقف ايمانويل كانط الحقيقة كقيمة أخلاقية
  انطلاقا من فلسفته الأخلاقية التي تقوم على الواجب الأخلاقي،يعتبر "كانط"أن قول الحقيقة واجب أخلاقي مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج المترتبة عن ذلك ، لكون الواجب أمر مطلق وصوري محض ،وأن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات، فالحقيقة غاية في ذاتها وجب قولها مهما كانت جسامة الضرر الذي قد يحدث، وهو بذلك يرد على الفيلسوف الفرنسي "بينيامين كونسطان" الذي اعتبر قول الحقيقة مسألة نسبية تخضع للظروف والسياقات والأحوال ،حيث يرى"كونسطان" أن صرامة الواجب ستجعل أمر قيام المجتمع أمرا مستحيلا.في حين تجعل صرامة الواجب الكانطي قول الحقيقة فعلا أخلاقيا وواجبا ملزما لكل الناس.
1-     موقف "وليام جيمس"الحقيقة قيمة عملية/نفعية.
    يؤكد "ويليام جيمس" على أن قيمة الحقيقة تكمن في كل ما هو نفعي عملي و مفيد في تغيير الواقع و الفكر معاً مادام أن الحقيقي هو المفيد والنافع. من هنا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها بل مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى . لأن الأفكار الحقيقية هي تلك نستطيع أن نستعملها و نتحقق منها واقعيا أما الأفكار التي لا نستطيع التأكد من صلاحيتها فهي خاطئة . ويعتبر  "ويليام جيمس" أن الأفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطتنا على الأشياء فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية للاستفادة من الطبيعة . و هذا يعني بالنسبة له أن الفكرة الحقيقية هي التي تحقق نفعا وفائدة، لذلك فامتلاك الحقيقة هو وسيلة تستهدف تحقيق حاجة ما لدى الإنسان فليس هناك شيئا حقيقيا إلا بالنظر إلى النجاح الذي حققه في الواقع و الفائدة منه .    
3-موقف "مارتن هايدغر" الحقيقة قيمة وجودية
   يقدم هايدغر تصور "نيتشه" للحقيقة وذلك في ارتباطه بالتصور التقليدي للحقيقة ،فإذا كانت الحقيقة في المنظور التقليدي قد ارتبطت بصدق التمثل ،فإن "نيتشه" سيجعل من الحقيقة قيمة وجودية في خدمة الحياة واستجابة لضرورة حيوية ،فالحياة هي أصل كل القيم العقلية والأخلاقية ،والحقيقة قيمة وجودية في خدمة الحياة ونموها وتطورها ،ويعد هذا التصور أقرب إلى الطرح البراغماتي الذي ربط الحقيقة بمتطلبات تطور الحياة ،لكن إذا كانت البراغماتية قد ربطت الحقيقة بما هو عملي وواقعي ،فإن موقف "نيتشه" من الحقيقة يتسم بكونه أكثر تجريدا وعمومية باعتباره يربط الحقيقة بتطور النوع الإنساني، فالحقيقة قيمة في خدمة الحياة الإنسانية.   
التركيب :
نخلص من خلال ما سبق إلى أنه رغم التحولات التي مست وطالت مفهوم الحقيقة ،إلى أنها ظلت مسعى  ومبحث الناس أجمعين ،ولم يقتصر الأمر على النظر إليها والبحث عنها بوصفها قيمة معرفية  تتأسس على اليقين المطلق  وكقيمة أخلاقية يتأسس عليها البناء الاجتماعي وتتخذ طابعا كونيا مطلقا  باعتبارها لا تخضع للسياقات والظروف والميولات  ،بل إنها أمر أخلاقي  يتسم بالصرامة والإطلاقية  ،وإنما  تم النظر إليها كقيمة عملية ترتبط بالحياة الإنسانية وتخضع  لشروط الاجتماعية والسياسية والدينية  الشيء الذي جعلها تتخذ طابعا نسبيا

 

.  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوما الحق والعدالة

مفهوم العنف