مفهوم العنف

الثلاثاء، 9 مارس 2021

مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

 

 

مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

تقديم:

   إذا كان الإنسان كموضوع للتفكير قد بدأ منذ اللحظة السقراطية وعباراته الشهيرة أيها الإنسان "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك " فإن ما ميز هذا التفكير هو كونه ظل تفكيرا تأمليا  وميتافيزيقيا مجردا ،بحيث نظر الفلاسفة في مختلف القضايا الإنسانية –اجتماعية، سياسية ،ثقافية...- وما قدموه لم يرق إلى درجة العلمية ،لكن حوالي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومع بروز مجموعة من التحولات التي مست المجتمع الأوروبي لعل أهمها التحولات الاجتماعية والثورات العلمية في ميدان العلوم التجريبية ،هو ما ولد رغبة لدى بعض الباحثين والعلماء لتأسيس العلوم الإنسانية كعلوم جعلت من الظواهر الإنسانية موضوعا لها والسعي لدراستها دراسة علمية تجريبية تقتدي بالمناهج المطبقة في مجال العلوم التجريبية خاصة من طرف التوجه الوضعي ،بيد أن هذه البداية المتأخرة وطبيعة الظواهر الإنساني ستضع الباحثين والعلماء أمام مجموعة من الصعوبات ذات الطابع الابيستيمولوجي من أهمها إشكالية الموضوعية والمنهج وقبل الخوض في ثنايا هذا الموضوع فلا بد أولا من طرح بعض التساؤلات : هل  يمكن تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية ؟وإذا كانت الموضوعية غير ممكنة فما الذي يحول دون تحقيقها ؟هل الظواهر الإنسانية قابلة للتفسير أم طبيعتها تستلزم اعتماد منهج الفهم؟ ألا تقتضي  خصوصيات الظاهرة الإنسانية إيجاد صورة للعلمية مغايرة تماما  لنموذج العلمية في العلوم التجريبية ؟  

المحور الأول: الموضوعية في العلوم الإنسانية

تأطير إشكالي :

  لا يستقيم الخطاب العلمي إلا بتوفره على شرط الموضوعية والتي تعني فصل الذات عن الموضوع والتزام الحياد ،وإذا كانت العلوم التجريبية لم تواجه إشكالية الموضوعية بحكم طبيعتها ،فإن العلوم الإنسانية وجدت في طريقها عائق الموضوعية من هنا نتساءل :ما الذي يحول دون تحقيق الموضوعية ؟

موقف المدرسة الوضعية

   لقد قامت الوضعية مع أوغيست كونت وايميل دوركهايم على محاولة تأسيس علم للإنسان شبيها بالعلوم الطبيعية ،وهو ما أدى للنظر إلى الظاهرة الإنسانية كشيء ،أي كظاهرة طبيعية قابلة للدراسة الموضوعية الصارمة كما تخضع مثلها مثل باقي الموضوعات لقوانين حتمية سببية قابلة للتحديد والتشييء والموضعة ،وفي هذا الإطار دعا دوركهايم إلى التعامل مع الظاهرة الاجتماعية كشيء خارج الذات وكمعطى مستقل عن أحكامنا القبلية ومصالحنا وميولاتنا ،فهل يستطيع العالم في دراسته للظاهرة الاجتماعية أن يتخلص من نوازعه المضمرة واللاواعية ؟

موقف "لوسيان غولدمان"

  في سياق مقاربته لإشكالية الموضوعية في العلوم الإنسانية  يقارن غولدمان بين عمل العالم في مجال العلوم التجريبية وعمل العالم في مجال العلوم الانسانية ،وإذا كانت العلوم التجريبية محط اتفاق واجتماع مادامت النتائج لا تتعارض مع مصلحة طبقة من الطبقات ،فان العلوم الانسانية بخلاف ذلك  بحيث يشكل تدخل الذات وعدم القدرة على التخلص من الأحكام المسبقة والجاهزة والنوازع المضمرة واللاواعية ....،عوائق تحول دون تحقيق الموضوعية في مجال العلوم الانسانية.

موقف رونيه بوفريس

  تؤكد رونيه بوفريس على أن ما يطبع العلوم الإنسانية هي إشكالية الموضوعية ،فعلى الرغم من ظهورها في فترة شهدت رغبة أكيدة في تطبيق النموذج الفيزيائي خاصة مع التوجه الوضعي ،ألا انه ليس باستطاعتها استيفاء شرط الموضوعية ،وذلك لكون المعرفة التي يكونها الانسان عن نفسه تظل مشبعة بالذاتية وبعيدة عن الحياد ،وليست الذات  العالمة بما تحمله من قيم ومصالح وميولات هي من تقف في وجه تحقيق الموضوعية ،بل يضاف إلى ذلك تعقد الظاهرة الإنسانية  وصعوبة موضعتها ،فمن المستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية بلوغ موضوعية مطلقة أو على الأقل التخلي عن جزء من أهدافها والاكتفاء بدراسة الظواهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية ،فكل معرفة تدعي دراسة الإنسان تكون مشبعة بالذاتية وبعيدة عن الحياد ،ما يعني غياب الموضوعة داخل حقل العلوم الانسانية.                                                                                              

خلاصة تركيبية للمحور :

  حاصل القول إدا كانت العلوم التجريبية والدقيقة لم تصطدم بعائق الموضوعية ،فإن العلوم الإنسانية على العكس من دلك واجهت إشكالية الموضوعية ودلك نظرا لبدايتها المتأخرة ولطبيعة موضوعاتها المتسمة بالتعقيد ولصعوبة التزام الحياد  من طرف العالم هذا الأخير الذي يصعب عليه التخلص من نوازعه المضمرة واللاواعية ومن أحكامه المسبقة والجاهزة .

المحور الثاني :الفهم والتفسير

التأطير الإشكال للمحور:

إذا كان التفسير يهدف إلى كشف العلاقات السببية والحتمية بين الظواهر المدروسة ،فهل يمكن تفسير الظاهرة الإنسانة أم أن خصوصياتها تقتضي الاكتفاء بتأويلها و بفهمها في دلالاتها الخاصة والفريدة ؟

موقف كلود ليفي ستراوس

     يقارن ستراوس بين العلوم الدقيقة –الطبيعية- والعلوم الانسانية ،ويرى على أن التقدم الحاصل في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية والنتائج المبهرة التي حققتها راجع لكونها اعتمدت التفسير وقدرتها على التنبؤ ،أما العلوم الانسانية فمحكوم عليها بالسير في وسط الطريق ،أي بين التفسير والتنبؤ مقارنة بالعلوم الحقة ،بحيث لا يمكنها التخلي عن أحدهما على حساب الآخر ،بل ينبغي أن تأخذ من كل اتجاه ما يجعل موقفها موقفا أصيلا يجسد مهمتها ،على الرغم من أن العلوم الانسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ولا تتنبأ بيقين تام ،غير أن الجمع بين كل من التفسير والتنبؤ بإمكانها أن تقدم للمشتغلين بها نوعا من الحكمة التي تسمح بتحسين الأداء.

موقف "جيل غاستون غرانجي"

   يرى "جيل غاستون غرانجي " على أن العقل في تصديه للظواهر الإنسانية فهو يتخذ موقفين وهما :منهج التفسير الذي يسعى لتفسير الظواهر الإنسانية تفسيرا سببيا يعتمد على العلاقات السببية كما هو الشأن في العلم الفيزيائي ،ويعد هذا المنهج منهجا علميا لا جدال فيه كونه خاليا من العوائق والنقائص ،لأنه ينصب بالأساس حول كشف العلاقات الثابتة التي توجد بين عدد من الحوادث والوقائع ،أما منهج الفهم فإنه يظل قاصرا باعتباره لم يستطع تجاوز العوائق والتفسيرات الأسطورية والميتافيزيقية ...،وهو ما يشكل عائقا جسيما أمام فعالية العقل ،فالمعرفة المرتكزة على الفهم تجعلنا نسقط في تأويلات ميتافيزيقية ،أسطورية ،بحيث تؤدي الرغبة العارمة في فهم كافة الظواهر إلى السقوط في متاهة الأسطورة ، ومن تم فإن جيل غاستون غرانجي يتبنى منهج التفسير باعتباره يحظى بالدقة والفعالية بخلاف منهج الفهم الذي يتسم بالمحدودية .

موقف "جول مورو" أهمية الفهم والبداهة في بناء العلم

   إذا كان "غرانجي " يدافع عن المنهج التفسيري باعتباره كشفا موضوعيا للعلاقات السببية بين الوقائع والحوادث الإنسانية منتقدا في الآن ذاته منهج الفهم  لكونه يتصف بالمحدودية فإن "جول مونرو" يسير عكس ذلك بحيث يؤكد على أهمية الفهم في مقاربة الظواهر الإنسانية ،فالفهم في منظوره يتميز بقيمة أساسية تتجلى في قدرته على استخلاص المعاني والدلالات والمقاصد من التجارب الإنسانية ،فالوقائع الاجتماعية ليست أشياء ،ولذلك لا يمكن تفسيرها ،بل ينبغي فهمها خاصة وأن الفهم يتسم بالبداهة والوضوح

خلاصة تركيبية للمحور :

بناء على ما سبق  يتبين على أنه إذا كانت العلوم الطبيعية والتجريبية قد تبنت منهج التفسير بحكم طبيعتها ،فإن مواقف المشتغلين في حقل العلوم الإنسانية قد اختلفت حول طبيعة المنهج الذي ينبغي اعتماده  في مقاربة الظواهر الإنسانية بحيث يرى "ستراوس" على أن  العلوم الإنسانية في حاجة للجمع بين التفسير والتنبؤ اللذان من شأنهما أن يمنحا للمشتغلين في ميدان العلوم الإنسانية فرصة تحسين الأداء ،في مقابل ذلك اعتبر " جيل غاستون غرانجي" ضرورة تبني منهج التفسير باعتباره يحظى بالدقة والفعالية بخلاف منهج الفهم الذي يتسم بالمحدودية .أما "جول مونرو" فإنه يؤكد على أن الوقائع الاجتماعية ليست أشياء ،لذلك ينبغي اعتماد الفهم الذي من شأنه  أن يمكن العالم من استخلاص الدلالات والمقاصد من التجارب الإنسانية .

 

المحجور الثالث: نموذجية العلوم الإنسانية.

التأطير الإشكالي للمحور:

لقد أبانت المناهج المطبقة في ميدان العلوم التجريبية والفيزيائية عن قوتها وفعاليتها في دراسة الظواهر والوصول إلى نتائج جد متقدمة ،وهو الأمر الذي دفع ببعض العلماء والمشتغلين في ميدان العلوم الإنسانية إلى محاولة استلهام هذه النماذج وتطبيقها على الظواهر الإنسانية ،لكن هل ينبغي اعتماد نفس المناهج المطبقة في ميدان العلوم الطبيعية والتجريبية أم أنه يجب اعتماد مناهج خاصة تتلاءم مع خصوصيات وطبيعة الظواهر الإنسانية ،وهل بالإمكان دراسة العناصر المكونة للفعل الإنساني بنفس الكيفية التي ندرس بها خصائص موضوع من الموضوعات الفيزيائية ؟ ألا نجد أنفسنا أمام ظواهر معقدة ومركبة تجعل من الصعب موضعتها وتشييئها .؟

موقف جان لادريير

يعتبر"جان لادريير" على أن هناك نموذجين  مختلفين للعلمية في العلوم الإنسانية وهما :

النموذج الوضعي الذي يقارب الظاهرة الإنسانية كشيء وهو منهج علمي أثبت جدارته وحجيته في ميدان العلوم الطبيعية ، تم المنهج التفهمي الذي دعا إليه عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" والذي يهتم ويعنى بالدلالات والمقاصد ،لكن جان لادريير يدعو إلى اعتماد نموذج أصيل والتخلي عن النموذج المعتمد في ميدان العلوم الطبيعية ،بمعنى آخر اعتماد مناهج أصيلة خاصة بالعلوم الإنسانية وتتلاءم مع طبيعة هذه الظواهر ،ويقف لادريير موقفا وسطا تجاه منهجي الفهم والتفسير معتبرا أن كلا المنهجين يشوبهما القصور ،ولذلك وجب تبني نموذج أصيل يراعي خصوصيات الظواهر الإنسانية.

موقف "إدغار موران"

  يميز السوسيولوجي الفرنسي "موران" بين صورتين ونمطين من أنماط الخطاب السوسيولوجي والبحث في العلوم الإنسانية بوجه عام وهما:

النموذج الأول : وهو النموذج الذي لا زال لم يتخلص التفكير الميتافيزيقي ،ولم يستطع الباحث وضع الذات بين قوسين وبعدم ايلاء أهمية للفاعل في الظاهرة ،وهو النمط الذي ينعته موران"  بالسوسيولوجيا الإنشائية

النموذج الثاني : فهو خطاب علمي أو كما سماه موران بالسيسيولوجيا العلمية  وتتميز بكونها لا تمنح للذات أي دور في إعادة  بناء الظاهرة وفهمها.

خلاصة تركيبية للمحور:

نخلص من خلال ما تقدم إلى أن نجاح العلوم التجريبية بفعل فعالية مناهجها جعل بعض المشتغلين في حقل العلوم الإنسانية يؤكدون على ضرورة استلهام  نموذج العلمية المطبق في ميدان العلوم الطبيعية والتجريبية ،في اعتبر الكثير من العلماء والباحثين في ميدان العلوم الإنسانية أن هذه الأخيرة في حاجة إلى إيجاد نماذج أصيلة تتلاءم وخصوصية الظواهر الإنسانية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوما الحق والعدالة

مفهوم العنف