مجزوءة الوضع
البشري
مفهوم التاريخ
تقديم إشكالي :
يحيلنا التاريخ على الماضي الإنساني بأحداثه
وتحولاته ووقائعه ،وقد شكل هذا الماضي موضوعا للمعرفة ،وهي المعرفة التاريخية ،إلا أن ارتباط هذا التاريخ بالزمن الماضي ،الذي
ولى وانقضى جعل الباحثين والمهتمين بهذا الحقل المعرفي أمام صعوبات ومآزق ذات
طبيعة إبيستيمولوجية –معرفية- ترتبط أساسا
بطبيعة الموضوع المدروس ،وما يترتب عنه من إشكالات تتعلق بالموضوعية ،ولم يتم
تناول التاريخ كموضوع للمعرفة العلمية فحسب ،وإنما كان موضوع للمقاربة
الفلسفية في إطار فلسفة التاريخ ،وقد حضي التاريخ بهذا الاهتمام كونه أحد الأبعاد
الأساسية المميزة للكائن البشري، بحيث تطرق الفلاسفة إلى العديد من القضايا
والإشكالات ،من بينها منطق التاريخ ودور الإنسان ومدى صناعته وفاعليته في هذا التاريخ ،وقبل الخوض في
القضايا والأطروحات التي قاربت الموضوع فلا بد من
طرح بعض التساؤلات : هل يمكن أن يكون التاريخ موضوع معرفة علمية موضوعية
،أم أنه مجرد سرد لأحداث الماضي ؟ ما طبيعة التقدم الذي تعرفه السيرورة
التاريخية ؟ وهل من دور للإنسان في صناعة التاريخ
؟
المحور الأول : المعرفة التاريخية
التأكير الإشكالي للمحور:
عرفت المعرفة التاريخية نقاشا ابيستيمولوجيا ،انصب
حول ما إذا كان التاريخ علم أم أنه مجرد حكي وسرد ،وقد انقسمت المواقف إلى موقفين
أحدهما أقر بعلمية المعرفية التاريخية ،وحدد شروط هذه المعرفة والركائز التي يجب
أن تعتمد عليها ،بينما التوجه الثاني اعتبر أن التاريخ لا يمكن أن يكون معرفة
علمية وإنما مجرد معرفة سردية وحكي للماضي الإنساني من هنا نتساءل :هل المعرفة
التاريخية معرفة علمية موضوعية ؟ وإذا
كانت معرفة علمية، فما شروط وضوابط هذه المعرفة ؟
وإذا لم يكن التاريخ معرفة علمية فما الذي يحول دون ذلك ؟ ألا تشكل طبيعة
الموضوع وذاتية المؤرخ عائقين أما تحقيق
الموضوعية في مجال التاريخ ؟
المواقف والأطروحات :
الأطروحة الخلدونية :
يعد "ابن خلدون
" من المؤسسين الأوائل لعلم التاريخ ،فقد أرسى دعائم الممارسة العلمية
في التاريخ ، بحيث يرى على أن المؤرخ لا يجب أن يكتفي بسرد أحوال الدول والأمم والحضارات
السالفة ،وقد عمل على وضع قواعد وأسس علم التاريخ
،بحيث ميز بين ظاهر التاريخ والذي لا
يتجاوز حدود السرد والحكي والإخبار عن الماضي الإنساني ،وبين باطن التاريخ الذي
يتجاوز الإخبار والسرد ...،فهو نظر وتحقيق وعلم بالكيفيات ...،أي أنه يقوم على
إعمال النظر العقلي والبحث عن الأسباب ويعتمد التدقيق والتحري والتحقيق ...،وذلك بغاية البحث عن الحقيقة التي تعد مطلبا لا غنى عنه في المعرفة التاريخية ،فالمؤرخ ملزم لاحترام هذه
الضوابط المنهجية والاحتكام لقواعد وأصول المعرفة
التاريخية .ماعدا ذلك فإنه معرض للسقوط في
الغلط والتيه والوهم.
2- موقف "هنري اريني
مارو "
إن التاريخ من منظور
"هنري اريني مارو " هو المعرفة العلمية المكونة حول الماضي الإنساني
،وليس مجرد سرد وحكي أو عمل أدبي يتوخى كتابة
هذا الماضي ،ذلك لأن المعرفة التاريخية معرفة علمية باعتبارها معرفة قائمة
على منهج علمي صارم ودقيق ومنظم وتتعارض مع المعرفة العامية والأشكال الأدبية من
قبيل الرواية التاريخية والقصص التربوية والحكاية الخيالية والأساطير ....،هذه الأشكال
التي تقوم على السرد والحكي وتصف ما ينبغي
أن يكون لا ما هو كائن ، فهي تعبر عن تطلعات ورغبات ومخاوف وهواجس ...،أما المعرفة
التاريخية فهي معرفة علمية ينشئها المؤرخ الذي لا يكتفي بالكتابة وإنما يعمل
أيضا على بناء الواقعة التاريخية وإنشاء أثر مكتوب ، فهو يصف ما هو كائن لا ما
ينبغي أن يكون وذلك بالاستناد إلى منهج علمي صارم ومنظم الذي من شأنه أن يوصله
للحقيقة و تحقيق الموضوعة التي تعد أساس كل معرفية علمية .
3- موقف "بول ريكور"
تعتبر المعرفة التاريخية
من منظور "بول ريكور " معرفة علمية ،لأنها معرفة مبنية حسب منهج مفكر فيه
من طرف المؤرخ ،بحيث يقوم عمل المؤرخ على الوثائق ،وينطلق من الملاحظة المنهجية لبناء
الوقائع التاريخية ،ونظرا لطبيعة الموضوع فإن المنهج يظل منهجا خاصا رغم تشابهه مع
منهج العلوم الحقة ،فالواقعة التاريخية يعاد بناؤها انطلاقا من خطوات منهجية علمية
يتبعها المؤرخ لفهم الماضي .الشيء الذي يفيد على أن التاريخ علم بالماضي الإنساني.
خلاصة تركيبية
للمحور
نخلص من خلال ما
سبق إلى أنه رغم وجود بعض التصورات التي اعتبرت
أن التاريخ لا يعدو أن يكون مجرد سرد وحكي للماضي الإنساني ،فإننا نجد أغلب المواقف
والتصورات أكدت على أن التاريخ معرفة علمية
،لكن شريطة احترام المؤرخ والتزامه بشروط وضوابط هذه المعرفة ،التي لا تقف عند حدود
السرد والحكي وإنما تعمل على مقاربة الواقعة التاريخية بناء على منهج علمي منظم وصارم .
المحور الثاني : التاريخ
وفكرة التقدم
التأطير الإشكالي للمحور :
إذا كان عمل المؤرخ، يهدف إلى تكوين معرفة علمية دقيقة بخصوص الماضي الإنساني ،بأحداثه ووقائعه والاشتغال على أحداث بعينها ،فإن عمل الفيلسوف ينصب حول تقديم تأويل لهذا الماضي بتحولاته ووقائعه وتقديم رؤية كلية وشمولية تسعى لتعقب مسار التاريخ ومحاولة الكشف عن الروابط التي تجمع بين الأحداث والوقائع والمنطق الذي يقف وراء هذه التحولات ويطبع حركة التاريخ ،هذا الأخير الذي يتسم بتسلسل أحداثه ووقائعه وتعاقبها في الزمن ،وهو الأمر الذي يحيلنا على فكرة التقدم ،لكن ما طبيعة التقدم
الذي يعرفه التاريخ ؟هل يتجه التاريخ وفق مسار
خطي من الأسفل إلى الأعلى ،أم أنه يعرف الانقطاع والانعطاف وعدم الاستمرارية ؟ألا يعرف التاريخ مسارا دائريا ؟ وهل التاريخ يتجه
نحو غاية محددة أم أنه محكوم بالصدفة ؟
1-
أطروحة "عبدالرحمن بن خلدون"
يتخذ التاريخ حسب ابن خلدون مسارا دائريا ،وليس مسارا
خطيا كما يعتبر البعض ،بحيث تخضع الحضارة لثلاث مراحل وهي :النشأة ،ثم الأوج
والازدهار، وأخيرا مرحلة الانحطاط والاندثار. والمحرك الأساسي لهذه -العملية
الحركة الدائرية - حسب ابن خلدون
يرجع إلى ما يسميه بالعصبية
القبلية ،أي : ذلك النسب الإثني المشترك الذي يجمع بين أبناء الجماعة أو
القبيلة الواحدة والذي يتمثل في الدم والعرق ،والذي على أساسه تتوحد هذه القبيلة
أو الجماعة ،إن العصبية القبلية هي ما
تجعل قبيلة تدخل في صراع مع قبيلة أخرى من أجل الزعامة والسيادة ،وكلما تقوت قبيلة
أخذت الحكم من غيرها واستولت عليه ،وهكذا
تتكرر وتتعاقب هاته العملة.
2 موقف " إدوارد هاليت كار"
ينطلق "إ.هاليت كار"
من التمييز بين مفهومي التطور والتقدم محاولا رفع اللبس والخلط بين المفهومين
والذي جعل العديد من المفكرين ،وخاصة مفكرو الأنوار، لا يميزون بينهما خاصة في ظل التأثير
الذي أحدثته نظرية التطور –النظرية الداروينية –فقد اعتبر البعض أن قوانين الطبيعة
مساوية لقوانين التاريخ، دون التمييز بين مجال الطبيعة ،الذي يتسم بطابع
التطور ،ومجال التاريخ الذي يعرف التقدم وليس
التطور ،لذا فقد عمل "هاليت كار" أولا على التمييز بين هذين المجالين،
معتبرا أن التطور يشير إلى النشوء والارتقاء ،فهو ذو حمولة بيولوجية ويتعلق بالوراثة
البيولوجية ،في مقابل ذلك فالتقدم يقترن بالتاريخ ويرتبط بأفق سوسيوتاريخي ،أي أنه
ينتمي للثقافة و يرتبط بالاكتساب الاجتماعي ،غير أن هذا التقدم لا يعني بأن له بداية
ونهاية ، هذا التصور الذي يظل تصورا دينيا –اسكاتولوجي- أقرب للاهوت منه للتاريخ فالتاريخ
يتقدم حقيقة، لكن هذا التقدم لا يتم وفق خط لا انعطاف أو انقطاع فيه ،بل يعرف الانقطاع
وعدم الاستمرارية فهو غير مستمر لا في الزمان
ولا في المكان .
2-
موقف "هربرت ماركيوز"
يقارب "ماركيوز"
إشكالية التقدم في التاريخ بالتركيز على الفترة المعاصرة من الحضارة الغربية تحديدا
،ويميز بين نوعين من التقدم وهما :التقدم الكمي والذي يشير إلى كل ما راكمه الإنسان
الغربي من معارف وكفاءات ووسائل تقنية ...،والتي تنامت وعرفت تطورات هامة –رغم فترات
التراجع أحيانا – ومكنت الإنسان من السيطرة على الطبيعة أولا ثم الإنسان فيما بعد ،وهو
ما جعل رائد المدرسة النقدية لا يصف هذا النوع
من التقدم بالإيجابي كونه كان سببا في الرفع من وتير السيطرة على الطبيعة والإنسان
وأجج الرغبة في الاستهلاك ،وبسط الأرضية لقيم
التسليع والاستهلاك المفرط والهيمنة.....،وفي مقابل التقدم التقني نجد التقدم الكيفي
الذي يتجلى فيما حققته الإنسانية من توسيع لدائرة الحرية وتحقق الأخلاقية وتراجع العبودية
الاضطهاد ...،إنه بتعبير ماركيوز تقدم ذي الأهداف الإنسانية ،فالتقدم
التقني استصحبه التقدم الكيفي ،بل إن الأول لعب دورا رئيسيا ومحوريا في تحقيق التقدم
الكيفي من خلال جعل الإنسان الغربي على وجه التحديد يتخلص من العبودية ويساهم في رقي
حضارته و ينعم بالحرية ،لكن تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين هذين النوعين من التقدم
ليست علاقة حتمية –أوتوماتيكية – بقدر ما هي
علاقة تكامل .
خلاصة تركيبية للمحور:
يتبين من خلال ما سبق
على أن مجمل الأطروحات أقرت بكون السيرورة التاريخية يطبعها التقدم ،غير أن هذه
التصورات والأطروحات اختلفت حول منطق هذه السيرورة وطبيعة هذا التقدم ،فإذا كان ابن
خلدون اعتبر مسار التاريخ يتخذ شكلا دائريا ،بحيث تعرف الحضارة
ثلاث مراحل وهي النشأة ،ثم الأوج والازدهار وأخيرا الانحطاط والتراجع ،هذه الحركة
الدائرية للتاريخ يتحكم فيها ما يسميه بالعصبية القبلية ،فإن ادوارد هاليت
كار يرى أن مسار التاريخ لا يأخذ مسارا خطيا متصلا وإنما يعرف التراجع
والانحطاط وعدم الاستمراية منتقدا بذلك التصور الاسكاتولوجي الذي يرى أن
التاريخ له بداية ونهاية ،أما هربرت ماركيوز فقد تطرق لفكرة التقدم
داخل الحضارة الغربية مميزا بين نوعين من التقدم وهما التقدم الكمي والتقدم
الكيفي ،وعلى الرغم من وجود علاقة بين كل من التقدم الكمي والكيفي إلا العلاقة
ليست آلية وميكانكية .
المحور الثالث : دور الإنسان في التاريخ
التأطير الإشكالي للمحور
إذا كان التاريخ
هو مجمل الوقائع والأحداث التي حدثت في الماضي ،فمن الأكيد على أن هذه الوقائع
والأحداث مهما كانت طبيعتها ،فهي وثيقة الصلة بالإنسان ،لكن هل الإنسان صانع لهذا لتاريخ
،أو بعبارة أخرى هل من دور للإنسان في التاريخ ،أم أنه خاضع للضرورة التاريخية ؟
1-
موقف "فريدريك هيجل " الإنسان غير صانع
للتاريخ
يعتبر
"هيجل " على أن الإنسان غير صانع للتاريخ ،وأن ما يصنع هذا التاريخ هو ما سماه بالروح
المطلق ،أما الإنسان فليس سوى مجرد وسيلة في يد هذا الروح المطلق ، هذا الأخير
يسخر الإنسان من أجل تحقيق غايته ،فحتى
العظماء والأبطال فهم ليسوا صانعين للتاريخ وفاعلين فيه ،بل إن ما يقومون به
ويصنعونه ما هو إلا تجسيد وتمظهر لإرادة الروح المطلق أو العقل المطلق ،فهذا
الأخير هو المحرك الفعلي للتاريخ والموجه لتطور الحضارة ،والمحدد الحقيقي لاتجاه
هذا التطور ،أما الإنسان فإنه مجرد وسيلة في يد الروح المطلق تحقق به هذه الروح غاياتها ،وما يجعل الإنسان يتوهم
بأنه يصنع التاريخ هو ما يسمى باليد الخفية للتاريخ ،فالزعماء والأبطال
والعظماء ينفدون غاية الروح المطلق وبمجرد
تحقيق هذه الغاية ينتهي دورهم فهم أشبه بقشرة الفاكهة التي تسقط بمجرد نضج الثمار.
موقف "كارل ماركس"
بخلاف الأطروحة
المثالية التي جاء بها الفيلسوف الألماني "هيجل " ،فإن "كارل
ماركس " ينطلق في مقاربته لإشكالية دور الإنسان في التاريخ من تصوره
المادي ،أي الذي ينطلق من الشروط المادية والاقتصادية والتاريخية ،ومن هذا المنطلق
ينظر "كارل ماركس " وزميله "فريدريك إنجلز " للتاريخ باعتباره
حركة وتطورا لأحداث مادية ،ونموا لتحولات تهم حياة الناس في جوانبها الاقتصادية
والاجتماعية والتاريخية والسياسية ،كما أن الصراع هو محرك التاريخ ،هذا الصراع
الذي يهدف في الأساس إلى إحداث تحولات داخل المجتمع والانتقال به من مرحلة إلى
مرحلة أخرى ،أفضل من سابقتها فالتاريخ على حد قول ماركس ما هو إلا تاريخ
الصراع بين الطبقات " ،ولما كان التاريخ الإنسان محكوم بالصراع ،والذي يتجلى
فيما قام به الإنسان من ثورات ونضالات ..،فهذا دليل على فاعلية الإنسان وقدرته على
تغيير أوضاعه وهوما ينطبق على طبقة البروليتاريا الذي يعتبرها قادرة على إزاحة
التفاوت الطبقي وتخلصها من سطوة الطبقة الرأسمالية ،صحيح أن ثمة شروط ومحددات
...،إلا أن الإنسان قادر على صنع التاريخ بتفاعله مع الشروط والمحددات أو كما يقول
"ماركس " تصنع الظروف البشر بقدر ما يصنع البشر الظروف"
موقف جان بول سارتر
يترتب عن إقرار
"سارتر " بحرية الكائن الإنساني، والنظر إليه باعتباره مشروعا يمكن أن
يحقق ما أراد مادام أن الوجود يسبق الماهية ، تصور آخر يفيد على أن الإنسان صانع وفاعل في التاريخ وذلك
وفق إمكاناته وقدراته ،وتفاعله مع الشروط والمحددات الاقتصادية والتاريخية
والاجتماعية ...،ففي كل الأحوال الإنسان فاعل في التاريخ وله القدرة على تغيير
مجرى السيرورة التاريخية ،وتجاوز الوضع الذي يحياه .
خلاصة تركيبية للمحور الثالث
حاصل القول
إن مقاربة الفلاسفة لإشكالية دور الإنسان
في التاريخ ،أسفر عن وجود موقفين ،أحدهما أكد على دور الإنسان وفاعليته في التاريخ
،بمعنى إنه صانع للتاريخ ويعمل على توجيه أحداثه وفق ارادته وإمكاناته ،في حين
نفى فلاسفة آخرون قدرة الإنسان على تغيير
مجرى التاريخ معتبرين أن الإنسان غير صانع للتاريخ ،هذا الأخير تتحكم فيه قوى ومحددات
أخرى ولا دخل للإنسان في التقدم الذي يشهده هذا التاريخ.
مواضيع للتفكير
والتمرن على الكتابة الإنشائية
ü هل يمكن أن
يكون التاريخ معرفة علمية موضوعية ؟
ü ما الذي يحول
دون تحقيق الموضوعية في ميدان المعرفة التاريخية ؟
ü هل يتقدم
التاريخ نحو وجهة محددة ؟
ü هل من دور
للإنسان في صناعة التاريخ ؟